الحمد لله, والصلاة والسلام على رسول الله, أما بعد؛
فقد رفع السلفيون شعار: "كلمة التوحيد قبل توحيد الكلمة", و"كلمة التوحيد أساس توحيد الكلمة", و"التوحيد أولاً"؛ إيمانًا منهم -بالأدلة من الكتاب والسنة, والتاريخ, والواقع- أن المسلمين لن تقوم لهم قائمة, ولن يحدث التمكين للمسلمين في الأرض, ولن يسودوا الدنيا إلا بتحقيق معنى لا إله إلا الله, وتحقيق العبودية لله -تبارك وتعالى-, وقد شغـَّب على هذا المعنى بعض الناس عن حسن نية, وحسن قصد تارة, أو عن عاطفة جياشة محبة للأمة تارة, أو عن تعب من طول الطريق تارة, أو عن جهل وعدم علم بالكتاب والسنة وتاريخ الأمة تارة أخرى, فدارت بعض الشبهات في هذه القضية نجمل أهمها:
الشبهة الأولى: أن الكلام في التوحيد, وفي مثل هذه القضايا يفرق الأمة, ونحن نريد توحيد الأمة!
بادئ ذي بدء: إن الذي يفرق الأمة هو من يخالف كتاب الله -تعالى-, وسنة النبي -الله صلى الله عليه وسلم-, ومن يدعو إلى ضلالة, أو بدعة تخالف ما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فإن الله تعبدنا باتباع النبي -صلى الله عليه وسلم-, ولم يتعبدنا باتباع قول أحد غيره كائنًا من كان، قال -تعالى-: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) (آل عمران:31), وقال -تعالى-: (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) (النور:54), والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وقال الإمام مالك -رحمه الله-: "كل يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا المقام, وأشار إلى قبر النبي -صلى الله عليه وسلم-", فعكس للأمور, وقلب للحقائق أن يقال أن من يدعو إلى السنة, وإلى تحقيق اتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الذي يفرق الأمة, وإلا لكان علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- مخطئًا حين حارب الخوارج -بعد أن بعث لهم ابن عباس -رضي الله عنهما- فناظرهم وأدحض حججهم ورجع معه آلاف منهم-, ولكان الواجب عليه أن يحتضنهم لتجميع الأمة, وهذا لا يقوله مسلم؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- بيَّن صحة ما فعله علي -رضي الله عنه- حين قال: (فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ) (متفق عليه).
ثانيًا: لم يقم أهل البدع والضلالات يومًا ما بنصرة الأمة, أو الجهاد في سبيل الله, والقيام بالفتوحات, بل التاريخ يظهر أنه يوم أن تمكن العبيديين الشيعة المسمون زورًا بالفاطميين في مصر والحجاز؛ ماذا فعلوا إلا تعطيل الجهاد والفتوحات, ونشر البدع والضلالات والانحرافات, ولم تقم للأمة قائمة إلا بعد أن تخلص "صلاح الدين الأيوبي" منهم بعد محاولاتهم العديدة لقتله, وما فعله القرامطة -حتى اقتلعوا الحجر الأسود وأخذوه عندهم- شاهد آخر, وحين تمكن المعتزلة زمن الإمام أحمد ما فعلوه فيه, وفي أهل السنة, وهذا حال أهل البدع على الدوام, وانظر ما فعلوه في شيخ الإسلام ابن تيمية, وفي البربهاري, وغيرهم من أئمة السنة.
وحين مُكِّن للشيعة في إيران لا يخفى ما فعلوه في أهل السنة ويفعلونه إلى اليوم, وما يفعلونه في العراق "ومن نافلة القول أن نقول إن هذا ليس حال أهل السنة معهم حينما يمكنوا" ولم توحد الأمة, ولم تقم لها قائمة, ولم تفتح البلاد, وترفع راية الإسلام إلا على يد أهل السنة والجماعة.
ثالثـًا: التجربة الأفغانية في الثمانينات شاهدة على صحة المقولة: "التوحيد أولاً" و"كلمة التوحيد أساس توحيد الكلمة", وخطأ الذين يريدون توحيد الأمة على غير هذا المنهج. فرفقاء الجهاد الذين حاربوا الروس قرابة السبعة عشر عامًا بذلوا ما بذلوا حين مُكن لهم, وحاولوا التوحد مع وجود السني والشيعي والصوفي ما لبثوا إلا أن تقاتلوا, فكل واحد يريد كل شيء لنفسه ولمنهجه, وقتل من الأفغان في هذه الفتنة أكثر مما قتل في جهاد الروس كما يقول بعض المحللين، وقد توقع بعض أهل العلم هذه الفرقة بسبب وجود المناهج المختلفة قبل أن يُمكَّن الأفغان بسنوات، ولم يكن هذا رجمًا بالغيب، ولكنها القراءة الواعية للسنن والتاريخ.
رابعـًا: محاولات التقريب بين السنة والشيعة، على سبيل المثال في العصر الحديث -ولنأخذ منذ زمن الشيخ "محمد رشيد رضا" -رحمه الله- إلى الآن, واشترك فيها من كان لهم مكانة وشهرة في الأمة في زمانهم كأمثال الشيخ "حسن البنا" -رحمه الله-, والدكتور "مصطفى السباعي", وانتهاءً اليوم بالدكتور "يوسف القرضاوي"- ما أفلحت في توحيد السنة والشيعة, بل باءت بالفشل رغم تنازلات أهل السنة الكثيرة, والكل يعلم نتيجة ما حدث, وآخره ما كان من كلام الدكتور يوسف القرضاوي؛ لأن المنهج الذي تتوحد عيه الأمة ليس هو التوحد وكفى أيًا ما كان الأمر حتى ولو بالتنازل عن ثوابت الأمة.
خامسًا: كيف يكون في جيش واحد, وصف واحد, ومكان واحد من يتعبد بالترضي على أبي بكر وعمر والصحابة أجمعين مع من يتعبد بلعنهم وتكفيرهم, ومن إذا اضطر قال: يا بدوي, ويا دسوقي مع من إذا اضطر فزع إلى الله -تعالى-؟! كيف يتفقون ويتوحدون، وكيف يتعاملون مع بعضهم في مكان واحد وخندق واحد؟؟!!
سادسًا: إن المنهج الذي ستتوحد عليه الأمة هو ما ذكره النبي -صلى الله عليه وسلم- حين قال: (تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ خِلاَفَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ مُلْكاً عَاضًّا فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ مُلْكاً جَبْرِيَّةً فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ خِلاَفَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ نُبُوَّةٍ. ثُمَّ سَكَتَ) (رواه أحمد، وصححه الألباني), فإلى من يريد توحيد الأمة في آخر الزمان... ستتوحد الأمة على منهاج النبوة على مثل ما كان عليه أبو بكر وعمر وغيرهما من صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- فهل بعد هذا المقال من مقال, وبعد كلام النبي من كلام؟!
وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقَتْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً, وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلاَّ مِلَّةً وَاحِدَةً قَالُوا: وَمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني), فهل بعد هذا البيان من بيان, وبعد هذا التوضيح من توضيح؟
الشبهة الثانية: أن الأمة اليوم موحِّدة فلا حاجة للكلام فيه!
بداية: من ثوابت المنهج السلفي عدم اتهام أحد من المسلمين الذين ثبت إسلامهم بيقين بالكفر, وهذا واضح بيِّن لا يحتاج إلى مناقشة، بل الأصل في المسلم أنه على منهج أهل السنة والجماعة, وليس من أهل البدع إلا إذا ظهر منه ما يدل على خلاف ذلك, ولكن التوحيد أفرض الفروض, بل هو أهم وآكد أركان الإسلام, وتعلمه وتعليمه واجب, فهل يقول أحد لا نعلم الناس الصلاة والزكاة, ونكتفي بمعرفتهم؟ لا يقول ذلك أحد فكيف بما هو أهم منهما. فهذا قيام بأحد الفروض علينا كقيامنا بالصلاة والزكاة, والحديث عن هموم الأمة ومشاكلها, والدعوة إلى الله وغير ذلك.
ثانيًا: لا يخفى وقوع بعض المسلمين في مخالفات كثيرة, كالتوسل بغير الله, والتمسح بالأضرحة, وعدم التحاكم إلى الشرع, وغير ذلك من المنكرات التي تعج بها المجتمعات الإسلامية ففي تعليم الناس التوحيد, وتعريفهم بدينهم بيان للجاهل والمخالف, ورده إلى الحق وحتى لا يقع غيره من المسلمين في هذه المخالفات, فإذا كان بعض الصحابة من مسلمة الفتح جهل بعض قضايا التوحيد كما في حديث ذات أنواط, فغيرهم من المسلمين يقع في مثل ذلك لذا قال الإمام محمد بن عبد الوهاب في كتاب التوحيد في المسألة الرابعة من مسائل باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما: "أنهم -أي الصحابة من مسلمة الفتح- إذا جهلوا هذا, فغيرهم أولى بالجهل", بالإضافة إلى أن هذه المسائل جزء من الدين يجب علينا تعلمها.
الشبهة الثالثة: أنتم تتكلمون في هذه القضايا, والمسلمون يذبحون, ويقتلون, ويشردون في كل مكان, بل قد يتجرأ البعض, فيقول: دعوا هذه المسائل, وفقه دورات المياه, والمسالك البولية, واهتموا بما هو أهم!
أولاً: يجب على كل مسلم احترام وتقدير كل ما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من واجب, أو مستحب, من صغير أو كبير في نظره -وإن كان ليس في الإسلام صغير وكبير, أو قشر ولباب, بل ما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- يدور بين الأهم والمهم-, ولا يتكلم بالكلام الذي يشعر بانتقاص بعض مسائل الدين؛ لأن بعض من لا علم عنده يستخدم مثل هذه الكلمات بأسوأ مما يكون, بل يتجرأ بسببها على السنة, وعلى علماء الأمة, بل وعلى الشريعة التي يدعو إلى تحكيمها.
ثانيًا: الاهتمام بالمسلمين وقضاياهم من التوحيد، ومن معنى لا إله إلا الله، وتحقيقـًا لعقيدة الولاء والبراء.
والمنهج السلفي يقدم ما قدم الله وينزل كل قضية منزلتها، ويحقق عبودية الوقت، ومواقف السلفيين عبر التاريخ من قضايا المسلمين سواء في فلسطين أو أفغانستان أو الشيشان أو البوسنة أو غيرها من بلاد المسلمين شاهد على هذا الاهتمام، ولكن هناك من يكثر الضجيج والصراخ مع ما ماله من القوة الإعلامية حتى يظن الظان أنه الوحيد الذي يفعل كل شيء، وغيره لا يفعل شيئًا!
بل إن المنهج السلفي يتميز عن غيره بتأصيل هذه القضايا من منظور إيماني عقدي لا يزول بزوال محنة المسلمين في بلد ما، لا من منظور عاطفي إعلامي ينتهي ويزول بمجرد حذف هذه القضايا من مقررات النشرات الإخبارية.
وأيضًا بتعريف كل فرد من الأمة ما يمكنه فعله سواء كان شيخًا كبيرًا أو امرأة عجوزًا أو طفلاً، ولا يكتفي بمجرد إثارة عواطف الشباب بكلمات قوية معسولة أو خطب رنانة.
ثالثـًا: نؤدي لكل فرد ما يجب عليه حتى يقوم كل فرد في الأمة بما يستطيع, حتى ولو كان شيخًا كبيرًا, أو امرأة عجوزًا, ولا نكتفي بمجرد إثارة عواطف الشباب بكلمات معسولة, وخطب رنانة.
رابعـًا: أننا نؤدي هذا الفرض الذي علينا من تعلم التوحيد وغيره من قضايا الدين, ونعلمها وندعو أنفسنا والمسلمين من حولنا إلى العمل بها والتمسك بها, ولاشك أن هذا عمل صالح, فلعلنا بهذا نكون أقرب إلى الله -تعالى-, فإذا دعوناه علـَّه أن يغير حالنا.
الشبهة الرابعة: نحن في القرن الواحد والعشرين, فهل يعبد أحد الأصنام حتى نتكلم في هذه القضايا!
لا يخفى على أحد: أن الكلام عن عبادة الأصنام ليس هو التوحيد كله, فمسائل التوحيد كثيرة من الإيمان بالرسل, والكتب, والقدر, واليوم الآخر, وما يتعلق بذلك.
ثانيًا: أن في الكلام على ذلك تنبيه على غيره من كل ما يعبد من دون الله.
ثالثـًا: في القرن الواحد والعشرين, وفي أكثر البلاد حضارة -على زعمهم- أمريكا مثلاً فيها عبادة الشيطان, ولها معابدها وعبادها, وعبادة الشيطان بالمعنى الموجود عند هذه الطائفة لم يفعلها حتى أبو جهل وأبو لهب, وفي الهند -وهي دوله نووية كبيرة- يعبد فيها البقر, والفئران, وغير ذلك حتى قال بعض أهل العلم: فصار كل شيء يتحرك يعبد هناك من دون الله, وفيها ما يقرب من ثلاثة آلاف ديانة, وما الذي حدث مع صنمي بوذا في أفغانستان عن الأذهان ببعيد, فهذه قضايا يحتاجها المسلم في كل عصر ومصر.
رابعـًا: الكلام في مسائل التوحيد والإيمان هو كلام في كل ما يتعلق بشريعة الإسلام من: فقه وسيرة وأصول وآداب وتربية وغير ذلك, ولا يعرف ذلك إلا من درس التوحيد ودرَّسه, وربى الناس عليه مقتديًا بمنهج وطريقة النبي -صلى الله عليه وسلم- في تربية أصحابه على التوحيد.
الشبهة الخامسة: أن هذه المسائل من مسائل الترف العقلي!
وهذه شبهة لا تستحق الكلام عليها, فكيف يقال على أصل الدين, وأفرض الفروض, وأصل دعوة جميع الرسل ترف عقلي... هذا بهتان عظيم.
هذه في نظري أهم الشبهات والرد عليها, فإن كان فيها من صواب فمن الله, وإن كان من خطأ فمني ومن الشيطان, والله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- منه براء.
وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك. وصلِ اللهم وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.