الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فمن المسائل التي اختلفت حولها الفصائل الإسلامية اختلافاً كبيراً مسألة المظاهرات ، هذا ويمكن عرض خلاصة لخلاصة ما ذهب إليه كل فريق فيما يلي:
أولاً: مذهب المانعين كحكم:
ذهب بعض أهل العلم إلى المنع من المظاهرات كحكم شرعي ثابت، واحتجوا على ذلك بدليلين:
الأول: أن وسائل الدعوة توقيفية لا يجوز إحداث وسيلة منها بغير دليل، وهو مسلك يميل إليه الشيخ الألباني -رحمه الله- في كثير من المسائل، ومنها مسألة المظاهرات، ويوافقه عليه كثير من تلامذته.
الثاني: أنها تشبه بالكفار؛ حيث أن هذه الوسيلة من الوسائل التي أخذت عن الغرب.
ثانياً: مذهب المانعين لما فيها من مخالفات ولما يترتب عليها من مفاسد:
ذهب بعض أهل العلم إلى المنع منها؛ لما تشتمل عليه من مخالفات؛ ولما يترتب عليها من مفاسد فمن هذه المخالفات:
1- السب والشتم سواء للكفار أو لبعض عصاة المسلمين. ثم إنه غالباً ما يقابل بسبٍ مثلِه في مظاهرات مضادة أو في وسائل الإعلام، وقد قال -تعالى-: (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ)(الأنعام:108).
2- تضمنها شعارات مخالفة للإسلام من حيث الأصل، ولا يجوز إطلاقها؛ مثل الحرية التي تعني عند أصحابها حرية كل طرف منها أن يدافع عن عقيدته بما في ذلك الكفار الأصليين والمرتدين.
3- وتضمنها إتلاف بعض المال العام الذي هو ملك للمسلمين.
4- خروج النساء على وجه يخالف القرار في البيت،
5- تضييع الصلاة في جماعة في كثير من الأحيان.
6- خروج المظاهرات المشتركة بين الإسلاميين وبعض التيارات السياسية المصادمة للمشروع الإسلامي.
وأما المفاسد المترتبة عليها فكثيرة، منها:
1- اندساس بعض المخربين الذين يتعمدون التخريب،
2- المواجهات التي تتم بين المتظاهرين وقوات الأمن، وبعض هذه المواجهات يصل إلى حد سفك الدماء،
وأما المجيزون للمظاهرات فقد استدلوا على قولهم بأدلة، منها:
الأول: وجود أدلة تفصيلية على جواز المظاهرات، منها:
أ- ما رواه أبو نعيم في الحلية عن ابن عباس -رضي الله عنهما- فيما كان بين عمر -رضي الله عنه- وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: (فقلت يا رسول الله ألسنا على الحق إن متنا وإن حيينا قال بلى والذي نفسي بيده إنكم على الحق إن متم وإن حييتم قال فقلت ففيم الاختفاء والذي بعثك بالحق لتخرجن فأخرجناه في صفين حمزة في أحدهما وأنا في الآخر له كديد ككديد الطحين حتى دخلنا المسجد قال فنظرت إلى قريش وإلى حمزة فأصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ الفاروق وفرق الله به بين الحق والباطل) ضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة 6531.
2- حدوث ذلك من العلماء من خروجهم في تلامذتهم للإنكار على بعض العصاة وعلى بعض الأمراء، كما حدث ذلك من شيخ الإسلام ابن تيمية، ومن غيره مراراً.
الثاني: استدلوا بأن الأصل في الأشياء الإباحة، وعلى هذا فالمظاهرات مباحة، ثم نقلوها من الإباحة إلى المشروعية بقاعدة "الوسائل لها أحكام المقاصد"، وقد ذكروا للمظاهرات مقاصد شرعية يمكن إجمالها في المقاصد الآتية:
الأول: البيان، من إنكار منكر، أو التذكير بحق إخوة في الدين في بلد آخر أو نحو ذلك.
الثاني: الإعلام، لإرسال رسالة إلى العالم الخارجي بردود الفعل الغاضبة تجاه جرائمهم في حق المسلمين.
الثالث: الضغط، ويعنون به الضغط على الأنظمة الحاكمة لاتخاذ قرار معين في صالح الإسلام، وإرسال رسالة لهم بأن هذا مطلب عام.
وسوف نرتب النظر في المسألة على النحو التالي:
أولاً: النظر في ادعاء وجود أدلة تفصيلية على مشروعية المظاهرات:
1- ادعاء وجود نص خاص في مسائل المظاهرات فيه نوع كبير من التوسع، لاسيما وأن أثر خروج المسلمين في مكة في صفين يحتاج إلى إثبات صحته قبل اعتماده أحد أدلة الأحكام، ثم إذا صح فغاية ما فيه أنهم خرجوا من دار الأرقم بن أبي الأرقم إلى المسجد، وليس في مكة آنذاك سلطة حاكمة بالمعنى المعاصر، ولم يكن في الأمر تجمهر ولا هتاف، ولا شك أن في قياس المظاهرات المعاصرة على هذه الواقعة توسع كبير، وإلا فأصحاب هذه المظاهرات ينكرون على من يرى أن الاجتماع في المساجد -بل وفي غيرها-، وبيان ما يجب بيانه كافٍ في تحقيق المقاصد التي يقصدون إليها بلا مفاسد.
2- وكذلك الحال بالنسبة لخروج العلماء في جماعات للإنكار على الولاة أو على العامة، وهي صور تحتاج أيضاً إلى إعمال ضوابط المصلحة والمفسدة،
فحصل من ذلك عدم وجود أدلة تفصيلية تفيد مشروعية المظاهرات.
أولاً: النظر في أدلة القائلين بالمنع ابتداءاً:
1- أما المنع منها بعلة كونها تشبه بالكفار فغير سديد؛ لأن المظاهرات -إذا لم يوجد مانع شرعي آخر منها- تصنف ضمن الأنظمة الإدارية، التي يمكن الاقتباس فيها من الكفار.
2- وأما المنع منها بعلة أن وسائل الدعوة غير توقيفية.
فالصواب في هذه المسألة -بإذن الله-: "أن الوسائل لها أحكام المقاصد"، مع ضرورة إضافة قيد في غاية الأهمية لم يذكره العلماء لوضوحه، ولكنه في زماننا يحتاج إلى أن يظهر، وهو قيد الإباحة، فتكون القاعدة: "الوسائل المباحة لها أحكام المقاصد".
وممن نص على أهمية هذا القيد في زماننا العلامة ابن عثيمين -رحمه الله- حيث يقول: "ليس للوسائل حد شرعي، فكل ما أدى إلى المقصود فهو مقصود، وما لم يكن منهياً عنه بعينه، فإن كان منهياً عنه بعينه فلا تقربه " (لقاءات الباب المفتوح 15/549).
فإذا تبين عدم وجود دليل تفصيلي، وفى ذات الوقت عدم وجود حاظر يمنع من المسألة كحكم انحصر الأمر في النظر في المخالفات وقياس المصالح والمفاسد.
وغني عن الذكر أن ما سبق وأسلفناه من المخالفات، ومن المفاسد المترتبة على المظاهرات يكفي بعضها في المنع منها، فكيف بمجموعها؟ بل إن هذه المفاسد يأتي بها المنع من هذه المظاهرات، حتى لو سلمنا لهم أن عليها أدلة تفصيلية؛ لأن غايتها أن تكون إحدى وسائل الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، التي تحتاج إلى النظر في المصالح والمفاسد، حتى ولو كان الأصل فيها المشروعية.
والواقع الذي نعيشه لا نكاد نرى منه مظاهرات عارية عن هذه المخالفات.
ومع ذلك فنقول إذا (افترض) الخلو من الموانع فالإجابة (المفترضة) آنذاك أنها جائزة.
ومما يعزز اختيار المنع وجود وسائل أخرى تتحقق معها المصالح المرجوة من وراء المظاهرات.
ويتضح ذلك من مراجعة تلك المصالح المرجوة، هذا بعد استبعاد مصلحة الضغط التي لا وجود لها في القاموس السياسي للعالم الثالث، والتي غالباً ما تأتي محاولات الضغط فيها بهذه الصورة إلى نتيجة عكسية.
وأما مصلحة البيان والإعلام فيتحقق بوسائل أخرى لا خلاف على مشروعيتها، منها الكلمة المسموعة والمكتوبة، بصورة يخاطب القلب والعقل، وتتكون فكرة مستقرة في وجدان المتلقي بخلاف الهتافات الحماسية التي ينطفئ لهبها بمجرد انتهاء المظاهرة،
نقول هذا مع التسليم بوجود فرق في المساحة الإعلامية بين الخطب والدروس والمحاضرات من جهة وبين المظاهرات من جهة أخرى إلا أن هذا الفرق لا يرقى إلى احتمال المفاسد المترتبة على المظاهرات.
ومن أغرب ما تستمعه من اعتراض على هذا الطرح قول بعض المؤيدين للمظاهرات: أما عندكم غير الكلام؟
وهذا الشعور الذي يتشبع به بعض منظمي المظاهرات من أنهم كأنهم زاحموا المجاهدين كتفاً بكتف لمجرد هتافهم "افتحوا باب الجهاد" يتسرب إلى المشاركين بصورة أو بأخرى، فيحصل لديهم قدر من الشعور بالرضا عن النفس، فلا يحاولون أن يفعلوا شيئاً مما يطالبهم به أصحاب الطرح الآخر من التوبة والرجوع إلى الله، والحرص على معاني الولاء والبراء وإشاعة ذلك في الأمة. وهذه المفسدة تعتبر في حد ذاتها أحد أبرز مفاسد المظاهرات.
إن المظاهرات لا تعدوا أن تكون كلاماً مجتزءاً لا يفيد معنى تاماً، وهو من هذه الحيثية أقل نفعاً من المحاضرات بكثير، فهو كلام قليل النفع، ويبقى نقطة تميزه الرئيسة ليس في كونه ليس بكلام، ولكن في دائرة انتشاره، وقد ذكرنا أن هذه الفائدة لا تقارن بالمفاسد المترتبة عليه، كما أن الفرق بينها وبين الخطبة والدرس في هذا الباب في سبيله إلى التقلص.
ويبقى في هذا الباب نصيحة أخيرة:
وهي أن مسألة المظاهرات ونحوها من المسائل التي نشب الخلاف فيها منذ فترة طويلة، وذهب كل فريق فيها إلى ما يراه، وعلى كل عاقل أن يعرف الحجة الشرعية فيما يعتقد ويعمل، ولا يكتفي بتقليد من يظن بهم الخير، ولكن لا داعي لتحويل كل أزمة عامة من الأزمات التي يلزم فيها توجيه النصح لعموم الأمة، وتثبيت قلوبهم أمام ما يجدون من فتن إلى ساحات جدل "عقيم" بين أبناء الصحوة الإسلامية.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.