كانت الليلة حالكة السواد .. شديدة البرودة .. ما زلت أذكر تلك الليلة إلى الآن ..
أتى يطرق الباب بعنف .. ويصرخ بصوت متقطع .. وبأنفاس لاهثة .. افتح ..افتح الباب
استيقظت فزعاً من نومي خطر على بالي السؤال المعهود: من الذي يطرق الباب في هذا الوقت المتأخر ؟؟
قمت أمشي بخطوات خائفة .. انظر بعين مترقبة .. مازال الباب يطرق بشدة ولكن الصوت أصبح خافتاً جدا ..
مددت يدي المرتعشة لأفتح الباب .. ففتح فإذا أنا بخيال امرأة عارية .. أصابتني صدمة أردت أن أغلق الباب سريعاً ، ولكن خطوتها ودخولها للبيت كان أسرع ..
كنت مغمضاً عيني .. لأريد أن أشاهد امرأة عارية .. ألا يكفي الغثاء الذي في التلفاز ؟!
حتى تأتي هذه وتكمل دور الضياع الذي نعيشه ..
انظر إلى ملامحي .. تأملني جيداً .. كانت هذه كلماتها قالتها بصوت حزين ..
اتق الله أيتها المرأة لست أنا الرجل الذي تطلبين ، فوالله إن لم تخرجي ف ..
قاطعتني قبل أن أكمل .. أنك لا تفهم شيئاً ، لست من النساء اللواتي تظن .. انظر إليّ فأنا مشوهة قبيحة ، لم يبق لي أبناء قومي .. مسحة جمال تغري رجل بئيس مثلك ..
ففتحت عيني لأنظر فيها .. فهالني ما رأيت .. لم أر شخصاً قبيحاً بهذا الشكل قط ..
يا الله !
امرأة عجوز محروقة الوجه ، عوراء العين ، صلعاء .. مقطعة الأصابع .. جلدها مليء بجروح وبثور ..
يا إلهي ..لم أر منظراً قط أفظع من هذه ..
يا أمة الله ما أنت وما شأنك :
أنا بنت قوم أضاعوا عزهم .. كنت فتاة كريمة جميلة ، لا يُعصى أمري إذا أمرت .. ولا أهان .. كنت مصونة لا تنالي يد الذل والغدر .. كنت لا أبالي بأعدائي وحولي من الرجال الذين لو زاحمتهم الجبال الصم لنسفوها نسفاً .. الذين يوعدون ويفون ، ويجاهدون وينتصرون ..
قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم .. طاروا إليه زرافات ووحدانا
آه .. آه
أين أولئك الرجال ..
قلت: يا امرأة لم أفهم ما تقصدين من كلامك .. سألتك من أنت فأجيبي عليّ .. أظن أن سؤالي كان واضحاً ..
أجابتني والدموع تنهمر من عينها العوراء بغزارة .. أتريد أن تعرف من أنا ؟ أمهتم أنت فعلا بهذا الأمر ؟
أنا ..
أنا .. الكرامة العربية
إنا لله وإنا إليه راجعون .. امرأة شوهاء ومجنونة أيضاً .. هذا ما قلته في نفسي .
قالت لم تصدقني.. أليس كذلك ؟ لكن والله أنا هي ذاتها ؟ لماذا لا تريد تصديق امرأة تنتسب إلى قوم سوء ؟ هل هناك أحد يكذب في انتسابه الصحيح وينتسب إلى العرب ؟ هل هناك عاقل يفعل هذا ؟
قلت : أنا لا أصدقك ، لأني بصراحة اعتقد اعتقاداً جازماً أن الكرامة العربية قد ماتت من زمان بعيد ، ودفنت تحت أقدام سلام الشجعان ..
لا أتصور أن قوماً يرضون بكل هذا الكم الهائل من الذل ، وتكون لهم كرامة ، حتى إن كانت شوهاء ضعيفة مثلك .. أنا اعتقد أن قوماً كهؤلاء براء من الكرامة وأمثالها من الأخلاق التي لا تليق بالعربي الأصيل!
أي كرامة -حتى إن كانت ضعيفة- لقوم يسب رسولهم ويهان ويسخر به وبدينه ، ثم يختلفون فيما بينهم هل تقاطع بضائع من صنع ذلك أم لا ؟
وأي كرامة لقوم تحتل أراضيهم ، ويحاصر إخوانهم حتى لا يجدوا ما يسد جوعتهم ، ثم لا يستطيعون إيصال كسرة خبز لهم .. بل يصرح مسئوليهم بضرب وكسر أرجل من يحاول الفرار من الموت جوعاً أو قصفاً ؟!
هذا هو اعتقادي وأنا لا أظنك إلا مخادعة من المخادعين الكثر الذين تعج بهم أرض العرب .. ليست للعربي كرامة ولا كرامة ..
قالت : صدّقت أم لم تصدق ؟ فهذا شأنك .. المهم أني آتية إليك لحاجة لي لن تكلفك الكثير ..
أريد أن أعطيك شيئاً لتوصله إلى أهله ..
يا ذل الكرامة العربية !
ألا تستطيعين الذهاب إلى مسئول عربي يوصل إليك ما تريدين ؟ فهم أقدر من مواطن ضعيف مثلي ؟
قالت بنبرة خائف :
لا .. لا .. إن المسئولين العرب قد عادوا الكرامة ، وتبرؤوا منها ، فلا آمن على نفسي إذا وجدني أحدهم أن يضعني في المعتقل ! فأُعذب ثم أقتل ..بتهمة الخيانة العظمى بعد محاكمة هزلية باسم العدالة .. رحم الله أختي العدالة العربية فهي قد ماتت من زمان غابر!!
المهم ماذا تريدين أن أفعل لك أيتها الكرامة العربية ..
خذ هذا الورقة أوصلها إلى كل عربي شريف ..
أنا الآن في لحظاتي الأخيرة .. أشرفت على الموت .. ولم يبق لي في هذه الحياة إلا القليل.. وعسى أن يطول بك عُمُر ، فترى من ذل العرب ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر !
مدت إليّ الورقة بالبقية الباقية من أصابعها .. ثم قالت أعطني وعداً أنك ستوصلها ، فإن فيها كلاماً في غاية الأهمية .. فأعطيتها وعدي ..
ثم بدأت تتنفس بصعوبة .. وألقت بنفسها على الأرض بتثاقل .. وأشارت إليّ أن آتي لها بماء .. انطلقت مسرعاً .. دخلت المطبخ أخذت الكأس ثم ملأته ماء .. فعدوت بشدة إلى حيث هي ..
أتيت فوقفت عند رأسها فإذا بصرها شاخص إلى السماء .. حركتها .. أيتها الكرامة العربية .. هذا ماء بارد .. لم تجبني فأيقنت عندئذ أن الكرامة العربية قد ماتت .. ماتت ميتة الأبد ..
واحزناه على العرب كيف يعيشون بلا كرامة! .. وا أسفاه على قوم سيعيشون أذلاء ويموتون أذلاء!
لم أنس الورقة التي أعطتني .. فتحتها فإذا فيها :
من الكرامة العربية ... إلى شرفاء العرب تحية طيبة وبعد :
إذا قُرأت عليكم رسالتي هذه فاعلموا أني قد مت بعد صراع مرير مع الذل ، لا أريد أن أحملك مسئولية موت كرامتك .. فأنتم الشرفاء أسأتم إليّ مراراً ، لكنكم أحسنتم إليّ مرات !! فأنا مقدرة لصنيعكم ولن أنس إحسانكم عليّ حتى بعد الموت .. إنما الذنب ذنب من تسلط على رقابكم ، وملأ السجون والمعتقلات بكم ، وسلك كل طريق ليبقي حكمه الذليل ..
أيها الشرفاء:
ماذا تريدون من بعد ضياع حقوقكم وموت كرامتك ، واحتلال أراضيكم واستباحة أعراضكم ونهب أموالكم ؟ !
والله إن هذه لمعيشة ذل .. بطن الأرض خير لكم من ظهرها .. لا أريد كلاما فارغا ، فقد سئمت من الخطب الرنانة والكلمات الهوجاء .. أريد أفعالا تحدث تغيراً وتبديلاً ، ليعز العزيز ، ويذل الذليل .. لا أريد أن أطلب منكم الكثير فإني أعلم أن طلباتي لن تحقق .. لا يستطيع قوم بلا كرامة تحقيق عزاً أو نصراً ..
يالبؤسكم أيها العرب بلا كرامة .. يالذلكم أيها العرب يالذلكم ..
الكرامة العربية
م ن ق ول[b]