الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فالمسجد على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان هو الجامعة، هو البرلمان، وهو المنتدى الإسلامي.
كان هو المحكمة التي تقضي بكتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
كان هو مركز التجمع ونقطة الانطلاق، منه انطلقت الفتوحات الإسلامية لتعم أرجاء الكون شرقاً وغرباً.
المسجد هو مكان العبادة والاعتكاف، ومكان التعليم والتوجيه، ومكان تشاور المسلمين وتناصحهم، ومركز القيادة المؤمنة، ومقر القيادة العسكرية وعقد ألوية الجيوش المجاهدة في سبيل الله، ومكان استقبال الوفود القادمة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حتى إن الحبشة كانت تلعب بالحراب في المسجد، ويقول لهم -صلى الله عليه وسلم-: (دُونَكُمْ يَا بَنِي أَرْفِدَةَ) متفق عليه.
فالمسجد موضوع لكل ما فيه مصلحة الإسلام والمسلمين، ولذلك أول ما قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة اعتنى ببناء المسجد، وحث الإسلامُ على بناء المساجد، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِلَّهِ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ أَوْ أَصْغَرَ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِى الْجَنَّةِ) رواه ابن ماجه، وصححه الألباني.
وكان الكبار والصغار والرجال والنساء يؤمًّون المسجدَ للصلاة والاعتكاف فيه، وحضور صلاة الجمعة، ودروس العلم، ولم يثبت منعُ أحد من دخول المسجد، والأحاديث التي فيها "جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم" أحاديث ضعيفة لا حجة فيها، بل هي مصادمة للأحاديث الصحيحة كحديث الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ قَالَتْ: (أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الأَنْصَارِ الَّتِي حَوْلَ الْمَدِينَةِ: مَنْ كَانَ أَصْبَحَ صَائِمًا فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ وَمَنْ كَانَ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ. فَكُنَّا بَعْدَ ذَلِكَ نَصُومُهُ وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا الصِّغَارَ مِنْهُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَنَذْهَبُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَنَجْعَلُ لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ الْعِهْنِ فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهَا إِيَّاهُ عِنْدَ الإِفْطَارِ) متفق عليه.
فإن لم تتربَّ الأجيال في بيوت الله، فأين تتربى؟! وإن لم تتعلق القلوب بالمساجد فبأي شيء تتعلق؟! فهي محاضن الأجيال الصالحة، ومراكز تربية قادة وجنود المستقبل.
ومن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (وَرَجُلٌ مُعَلَّقٌ بِالْمَسْجِدِ إِذَا خَرَجَ مِنْهُ حَتَّى يَعُودَ إِلَيْهِ) رواه مسلم.
وقد رُبِط ثمامة بن أثال بسارية المسجد، وكان مشركاً، فيجوز دخول المشرك بإذن المسلم، وأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- بأن تأتيه بالخـُمرة من المسجد وكانت حائضاً، وقال لها: (إِنَّ حَيْضَتَكِ لَيْسَتْ فِى يَدِكِ) رواه مسلم، فيجوز دخول الحائض المسجد لحاجة تقضيها وتخرج دون مكث وإقامة، وقد اعتكفت أمهات المؤمنين في المسجد حال حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- وبعد وفاته.
فلا يجوز تنفير الصغار من دخول المسجد، كما لا يجوز تكدير المرأة بسبب صياح أولادها؛ إذ المرأة قلما تنفك عن صغار، وقد تحتاج لسماع وعظ وتذكير، فمنعها من المسجد بسبب أولادها فيه تفويت لمصلحتها، والنساء شقائق الرجال في الأحكام، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخفف من صلاته إذا سمع بكاء الصبي وذلك لما يعلم من وَجْدِ أُمِّهِ عليه.
لابد وأن نعمل على إعادة المسجد إلى دورِه القيادي وعملِهِ الرائد الشامل الذي كان عليه على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلا يُستبْدل بغيره، ولا يصح أن تقتصر دائرة العلاقة به على مجرد تأدية الصلوات الخمس، ثم يتم إغلاقه.
كما لا ينبغي أن تنصرف الهمم إلى تحمير وتصفير المساجد، ووضع النجف الفاخر، مع إضاعة الجوهر والمهمة الأساسية لبناء المسجد، إن المسجد على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يكن مفروشاً، كما لم يكن مُضاءً، وعلى الرغم من ذلك فقد خرَّج رجالاً صدقوا ما عاهدوا الله عليه، رجالاً آمنوا بالله وصدقوا المرسلين.
ونحن اليوم بحاجة لرجال يصلون الأرض بالسماء والدنيا بالآخرة، يعمرون المساجد بطاعة الله، ويهتمون بشئون المسلمين في شتى بقاع الأرض؛ فمن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم.
ينبغي على من يتصدر لرسالة المسجد من أئمة وخطباء ومدرسين أن يكونوا على مستوى هذه المهمة الشريفة، بحيث يصبح المسجد مصدر إشعاع للحي والبلد الذي يتواجد فيه، ولابد من مواجهة التحديات المعاصرة، وتقديم الحلول للمشاكل المطروحة، وإقامة الواجبات وسد الثغرات، وتشغيل الطاقات المعطلة، فواحد في الجيش يفسد تدبيره، فكيف بألف؟! والمعسكر الذي تكثر فيه البطالة يجيد المشاغبات.
والمهمات كثيرة عديدة تحتاج لفريق عمل وخلية نحلٍ؛ فهذا يهتم بالصغار، والثاني يقوم على دعوة النساء، والثالث يتفقد أحوال المصلين، والرابع يهيئ المسجد... وتنظيف المسجد عن مثل القذى في العين طاعة وقربة لله، وهكذا فالمهمة لا تقتصر على مجرد الإمامة والخطبة والدرس.
لقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الإمام الأول وخلفه أبو بكر في الإمامة، فلما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واختلف المسلمون يوم سقيفة بني ساعدة فيمن يتولى إمرة المسلمين قال عليٌ -رضي الله عنه-: "رضيك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لديننا أفلا نرضاك لدنيانا؟"؟! ثم كان الخلفاء بعد ذلك يخطبون في الناس ويؤمونهم في الصلاة، وظل المسجد مقر الحاكم المسلم ودار حكومته حيناً من الدهر، يتم من خلاله تعبيد الدنيا بدين الله، وإقامة حضارة على منهاج النبوة.
فإذا أردنا للمسجد أن يؤدي رسالته فعلينا أن نكون على مثل ما كان عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً)(الأحزاب:21).
وكل خير في اتباع من سلف، وكل شر في ابتداع من خلف، وما لم يكن يومئذ ديناً فليس اليوم ديناً، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
إن التقدم المادي لا ينبغي أن يأتي على حساب المسجد، ولا أن يـُفرِغ رسالة المسجد من محتواها، ولابد من دعوة جادة تعيد شباب الأندية والملاهي ودور اللهو إلى بيوت الله، لم يرخص النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن أم مكتوم في أن يصلي منفرداً في بيته، قال: (أَتَسْمَعُ النِّدَاءَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مَا أَجِدُ لَكَ رُخْصَةً) رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني، رغم أن ابن مكتوم كان يسكن عوالي المدينة، والصحراء كثيرة الهوام والحشرات، وكان أحياناً لا يجد من يقوده إلى المسجد.
فليتقِ اللهَ هؤلاءِ الذين يمنعون أبناءهم من الذهاب إلى المسجد، ويعتبرون ذلك إضاعة للوقت، وكذلك الأمر بالنسبة للأساتذة الذين يعقدون الامتحانات وقت صلاة الجمعة، لا بورك في دنيا تأتي على حساب الدين؛ فركعتا الفجر خير من الدنيا جميعاً.
لابد أن يقوم المسجد بإعلاء كلمة الإسلام واضحة جلية في الصغير والكبير، والرجل والمرأة، وأن تتكاتف الجهود لتبليغ الرسالة وتأدية الأمانة، فدعوتنا دعوة عالمية (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً)(الفرقان:1).
إن الأعداء يحاولون تخريب المسجد وتقليص دوره حتى وقف "غلادستون" يوماً في مجلس العموم البريطاني، وقال: "إن العقبة الكئود أمام استقرارنا بمستعمراتنا في بلاد الإسلام هذا الكتاب وهذا البيت، وأمسك بالمصحف بيد، وأشار بالثانية إلى الكعبة -أفضل المساجد وأشرف بقاع الأرض-".
فعلى كل من تشرَّف بالانتساب لهذا الدين، وانتسب لخير أمة أخرجت للناس أن يكون له دوره في إقامة الحق في الخلق، وأن يعمل على إرجاع المسجد إلى صورته وقيمته الأولى، فهو نقطة الانطلاق لإقامة دولتنا العالمية، وتطبيق حكم الله في الأرض، وتعبيد الناس بدين الله، مستعينين بالله، ومستشعرين أنه لا حول ولا قوة إلا بالله.
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.